
مقدمة المترجم
سعيد بنكراد
ترجم هذا الكتاب منذ أكثر من خمس سنوات ولكن ظروفا تقنية حالت دون نشره
يُعد الشعار “صيغة مختصرة ومعبرة وسهلة التذكر، إنه يُستعمل عادة في الحملات الإشهارية والدعائية بغاية الترويج لمنتج أو ماركة، أو من أجل الدفع بالناس إلى تبني بعض الأفكار السياسية أو الاجتماعية”[1]. إنه ليس مرتبطا بالإشهار أو الدعاية السياسية، إنه قديم قدم حاجات الناس إلى من يفكر بدلا عنهم. وبذلك، فإن جزءا كبيرا من مضمونه يعود إلى أهواء النفس، فكتلة الانفعالات في حاجة إلى من يستثيرها من خلال شعار يجسدها في فعل بعينه. واستنادا إلى طبيعته هاته، فإنه لا يتحدد من خلال مضمونه، أي من خلال ما يقوله، بل من خلال وقْعه، أي قدرته على التأثير في المتلقي والدفع به إلى الفعل استنادا إلى ما لا يقوله. وذاك موقعه الحقيقي في سلوك الحشود داخل الفضاء العمومي.
إنه سجالي لأن حقائقه جزئية، فما يدعو إليه أو يروج له مستمد من الجهة التي أطلقته. إنه يُبنى كما يُبنى الشعر والتعليق العفوي والمثل والقول المأثور، ولكنه قادر على استيعاب كل محسنات القول أيضا. وبذلك عُد يافطة لفظية لا تخبر ولا تبَلغ بل تحرض وتحث وتدعو إلى تبني ما لا يمكن أن يتبناه الفرد من تلقاء نفسه أو ما يقدم له من خلال قول نثري. بعبارة أخرى، إنه يُغري ويدفع الكبار والصغار إلى اللعب كما كانوا يفعلون وهم يتعلمون كيف ينتمون إلى عالم تسميه كلمات المحيط المباشر. إن الراشد يستعيد من خلاله الطفل الذي ضاع داخله أو من أجل التخلص من رشده ومن مسؤوليته عن أفعاله وأقواله. وبذلك كان طريقة في صياغة ما يمكن أن يُصنف ضمن “الفكر الجاهز” الذي يعفي الناس من التفكير.
وذاك ما تُثبته الأصول الأولى لهذه الكلمة. فكلمة slogan مشتقة في الفرنسية من أصول ويلزية هي: sluagh-ghairm التي تعني حرفيا “صرخة الحشود” الداعية إلى الحرب. وتدل كلمة شعار في العربية، في بعض من معانيها، على ما يكون في المقدمة، أو هو الظاهر الذي يُغطي على ما تبقى من الكائنات والأشياء ( لسان العرب). إنه يشير، في الحالتين معا، إلى ما يتجاوز دائرة الفرد الواحد لكي يحتفي بالجموع، فالشعار يستهدف الحشود، إن الفرد يفكر، أما الحشود فأسيرة انفعالاتها. وبذلك، فإن جزءا كبيرا من مضمونه يعود إلى أهواء النفس، فكتلة الانفعالات تنتشر في الحسي، إنها لا تعيش في الكلمات وحدها، بل تستدعي الجسد الحاس باعتباره حاضنا للأحاسيس وكاشفا عنها.
إن الشعار موجود في كل مجالات النشاط الإنساني، فهو سياسي وإيديولوجي وإشهاري وتربوي ورياضي وأدبي، بل قد يمتد سلطانه لكي يستوعب داخله كل ما أنتجته حكمة الأمم من أمثال وأقوال مأثورة. ومعنى ذلك، أن التعبير الشعاري يُكثِّف المجرد والعام في صيغ لغوية تتميز بالجمالية والإيجاز والإيقاع الشعري. إنه صيغة قابلة للتكرار والترديد، وتلك سمة مركزية فيه، “إنه لا يُقرأ بل يُرى، ولا يُنصَت إليه بل يُسمع”[2] . إنه بذلك، يتوجه إلى العاطفة والانفعال، لا إلى ضوابط العقل وأحكامه. ففيه دائما شحنة من يقين، أو وهم بحقيقة مطلقة يمكن أن تعم المجتمع كله. وذاك ما تحتاجه الحشود وتطمئن إليه، “فالإيمان” لا يُعبر عنه بالمفاهيم ولا يُعاش فيها، إنه يتجسد في صيغ لغوية تختصره وتُشخصه. حينها تلتقطه الأفئدة وتردده الحناجر في الشوارع والساحات العامة. إنه “صيغة سحرية موجهة لاستئصال القلق واستجماع الطاقات”.
وبذلك، فإن الشعار هو في المقام الأول أداة للتسويق. تسويق المنتجات والأفكار والانتماءات السياسية والإيديولوجية. وقد يكون من أسباب ذلك أن الشعار يدفعنا، عكس ما هو سائد في الأشكال الدعائية البسيطة والصيغ التمثيلية العامة التي تستعملها الوصلة الإشهارية مثلا، إلى الاعتقاد في قضية ما (الإسلام هو الحل). فهو واسطة بين مضمون إيديولوجي أو عقائدي أو سياسي، وبين قناعات بسيطة يتداولها الناس ويبحثون لها عما يسندها في “الجاهز” الديني أو الإيديولوجي أو الأخلاق العامة. فلا وجود لشعارات موضوعة “للتأمل” و”التدبر”.
وعلى عكس ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، فإن الشعار لا يُكثف مضمون قضاياه في ملفوظ يكون بديلا مطلقا عنها، بل يعمل على “تبسيطها” واختصارها في ما يشبه صيغة شعرية تشير إلى تقابل إقصائي يكون العالم فيها مشدودا إلى قطبين لا رابط بينهما: ما هو مقبول وما هو مرفوض ولا شيء غيرهما ( إذا كان الإسلام هو الحل، فإن المجتمع الحالي ليس مسلما). لذلك من الصعب ترجمة الشعارات. فهذه الصيغ تثير المتعة بشكلها لا بمعناها، فالناس يرددون الشعار لأنه يروق الأذن قبل الذهن. وقد كان المثال الذي قدمه المؤلف في مستهل كتابه بالغ الدلالة، فبطاريات ووندر كانت هي الأكثر فعالية في اللغة، فقد قُدمت إلى المستهلك من خلال أداة التعريف التي تنفي الفعالية عن كل البطاريات الأخرى.
وكانت فرنسا قديما قد وضعت على حدودها لوحة كبيرة كُتب عليها: “هنا يبدأ بلد الحرية”. فعلى الرغم من تقريرية هذا الجملة الصريحة، فإن كل شيء فيه كان خادعا رغم إحالته على مضمون قد يقبل به الكثيرون: فقد تكون فرنسا حقا بلدا للحرية، جزئيا أو كليا، وقد تشير الجملة إلى الثورة الفرنسية التي خلدها التاريخ في مبادئ “الحرية والمساواة والإخاء”، إلا أن مضمونها يعود إلى شيء آخر، أو إن شئتم إلى جملة أخرى: “وهنا تنتهي حدود بلدان لا تسود فيها الحرية”[3]. إن قيمة الشعار لا تكمن في أغلب الحالات، في ما يقوله بشكل مباشر بل في ما لم يقله، أو في ما حاول التغطية عليه من خلال التعميم المفرط أو التخصيص المخل. ومع ذلك، فإن ما يقوله هذا الشعار ليس تضليلا بل قد يكون دعوة إلى القيام بثورات شبيهة بثورة فرنسا.
إن الشعار هو أيضا الأداة التي من خلالها يستطيع الفاعلون في الإشهار التصرف في الحاجات وخلقها وتحويلها إلى ما يمكن أن يصبح حاجة تأتي إلى النفس من خارجها. وهي صيغة أخرى للقول إن الشعار أداة لتحويل “حاجة واقعية (الشرب) إلى موضوع مصطنع (الماء المعدني)، بفضل حاجة أخرى (البريستيج)، إنه تحويل يقوم الشعار بتثبيته ضمن سلسلة منطوقة: “بيريي، شامبانيا مياه المائدة”. فلا يمكن أن ندفع حمارا إلى الشرب إذا لم يكن عطشانا؛ ولكننا نستطيع فعل ذلك مع الإنسان. وتلك هي سلطة الكلام”[4].
لذلك كان مجتمع الاستهلاك هو أكثر المجتمعات إنتاجا للشعارات وأكثرها قدرة على الترويج لها واعتمادها في تسويق كل شيء. فنحن نعيش بالشعارات ونستهلك بالشعارات ونتداول في الكثير من القضايا استنادا إلى ما توحي به الشعارت أو تدعو له. لقد استوطن الشعار الفكر وحوله إلى “جاهز” يستند إليه الناس من أجل تدبير أمورهم في السياسة والاجتماع والاستهلاك. فمن الشعار يستمدون الكثير من قناعاتهم، ومن خلاله يتعلمون كيف يحكمون على أنفسهم وعلى الآخرين. لقد حول “التواصل الجماهيري” الشعار من صيغة تواصلية خاصة بمجموعة محدودة من القطاعات الاستهلاكية المرتبطة بالإشهار خاصة، إلى أداة مركزية كونية تتحدد وتُصاغ وفقها كل الحاجات: في السياسة والإيديولوجيا والدين والتربية.
إن الناس، في تصور الفاعلين في ميدان التوجيه الإيديولوجي، ميالون إلى “الفكر الجاهز”، إلى من يريحهم، إنهم في حاجة إلى الأب الذي يأخذ على عاتقه حل مشاكل كل أبنائه: “بنككم يتكفل بكل شيء”. وبذلك كانوا ميالين أيضا إلى القَطْعية والأحكام المسبقة والتقاطب الضدي. إن الشعار مانوي، فما ليس خيرا يجب أن يصنف ضمن الشر.، وما ليس أبيض فهو أسود، فلا وجود للرمادي في ذاكرة الحشود. إنه يشير إلى سيكولوجية مانوية من طبيعة إطلاقية لا تعرف الوسط، فإما السلب وإما الإيجاب، من ليس معي فهو ضدي، والبعد يَجُبُّ القبل بالإلغاء لا بالتقادم الزمني[5].
ورغم هذه الحقيقة، فإن الشعارات لا تهدف دائما إلى تخدير العقول أو تشويه الحقائق، فالكثير منها كان يدعو إلى تغيير حقيقي وإلى قيم إنسانية تحتفي بالإنسان وترفع من شأنه. لقد رفعها أولئك الذين كانوا يحلمون ببناء مجتمع عادل. فلم تكن: “يا عمال العالم اتحدوا” صرخة جياع بلا أفق، ولم تكن دعوة إلى الحقد والكراهية، لقد كانت تعبر عن رغبة الناس في بناء مجتمعات عادلة في توزيع الثروات. تماما كما كانت شعارات طلبة فرنسا الذين نزلوا إلى شوارع باريس سنة 68 يطالبون بمجتمع قادر على استيعاب ما كان يتطور على هامش القوانين السائدة أو ضدها. لقد طالبوا بمجتمع جديد يعيش بالحلم، ولا يعرف الممنوع: “ممنوع المنع”، “،” انسوا كل ما تعلمتم وابدؤوا بالحلم”.
ومع ذلك سيظل “الشعار مضللا، رغم كل النوايا الحسنة التي تقف وراء صياغته؛ فهو يحمل “حقيقة جزئية” قائمة على إلغاء ما تبقى من الحقائق. إنه لا يبني بل يقوض ويُقصي، ولا يقود إلى الحقيقة بل يدمر شروطها من حيث إنه تكرار وترديد. بعبارة أخرى، يقوم الشعار بالإثارة والاختصار والإيجاز وتوحيد الناس، ولكنه في كل وظائفه تلك يميل إلى التبسيط، إنه “فكر جاهز” أي موضوع أساسي للفكر، ولكنه عائق أمام استقلالية هذا الفكر”. لذلك لا يقتضي التخلص منه العمل على دحضه، ولا تجاهله، بل إدراك طبيعته هاته. حينها فقط يمكن الكشف عن سلطة الإغراء فيه، وإعادة التفكير في الأفكار التي يزعم أنه يلقننا إياها ويمكننا من التفكير في الشعار “عوض أن نفكر بالشعارات”.
[1] – Trésor de la langue Française
[2] – Olivier Reboul : Le slogan, éd P U F, 1975, p.34
[3] – Olivier Reboul : Le slogan, éd P U F, 1975, p.11
[4] – أوليفيي روبول النص المترجم ص 35
[5] -اظر مقالنا “الشعار: في : بين اللفظ والصورة، تعددية الحقائق وفرجة الممكن، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، 2017